الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي؛ ويجنحون إلى السلم والمسالمة؛ وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقًا:{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}.والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح، تعبير لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق. فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم، ويرخي ريشه في وداعة! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر. وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه كذلك منهم، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقاتله؛ وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية، ولا للدولة المسلمة. وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك هذا الفريق، وأن يقبل مهادنته ومسالمته (وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد، أو كان له عهد غير موقت، مدة أربعة أشهر، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه) ومن ثم فهو ليس حكمًا نهائيًا على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجردًا عن هذه الملابسات، ومجردًا كذلك عن النصوص التالية له في الزمن، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم.ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه. فقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم به حتى نزلت سورة براءة- ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة..ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائيًا ودائمًا ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية.. ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي؛ فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر؛ ولم تكن أحكام الجزية موجودة. والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي، أن يقال: إن هذا الحكم ليس نهائيًا؛ وأنه عدل أخيرًا بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة (التوبة) والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام: إما محاربين يحاربون. وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله. وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا.. وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي. وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد:قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن يزيد، عن أبيه، عن يزيد بن الخطيب الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، وقال: اغزوا باسم الله. في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين، مع ذكر الجزية.. والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح؛ وبعد الفتح لم تعد هجرة (بالقياس إلى الجماعة المسلمة الأولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن) والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة؛ وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية.ققبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس، وهم مثلهم في الشرك؛ ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم. وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد (أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك، وروى غيره عن أبي حنيفة):وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه، أن قول الله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}.لا يتضمن حكمًا مطلقًا نهائيًا في الباب، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة. إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين. وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة. فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية- وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم- أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا؛ ليكون الدين كله لله.ولقد استطردت- بعض الشيء- في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن الجهاد في الإسلام؛ فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم؛ ويستكثرون على دينهم- الذي لا يدركون حقيقته- أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه؛ وأهله- الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعورًا جديًا- ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى؛ كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة؛ ولا حول لهم في الأرض ولا قوة.. وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤولوها تأويلًا يتمشى مع ضغط الواقع وثقله؛ ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته!إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية، فيجعلون منها نصوصًا نهائية؛ وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة، فيجعلون منها نصوصًا مطلقة الدلالة؛ حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوص المقيدة المرحلية! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين، وعن دار الإسلام عندما تهاجم! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة. والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام! إن الإسلام- في حسهم- يتقوقع، أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده- في كل وقت- وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه، ولا بالخضوع لمنهج الله، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان! أما القوة المادية- الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس- فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه، فيتحرك حينئذ للدفاع!ولو أراد هؤلاء المهزومون روحيًا وعقليًا أمام ضغط الواقع الحاضر، أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع- دون ليّ لأعناق النصوص- لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم؛ ولاستطاعوا أن يقولوا: إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو، ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة؛ إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة.وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات:لقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهدًا على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة. مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش، والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة، أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم، وإن كانوا لا يعقدون معه عهدًا، وأن يوادعهم ما وادعوه.. ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا.ولما كانت غزوة الخندق؛ وتجمع المشركون على المدينة؛ ونقضت بنو قريظة العهد؛ وخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين؛ عرض على عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة، وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشًا وحدها. وكانت هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما مراوضة ولم تكن عقدًا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد رضيا، استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك؟ أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع؟ أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: «بل أمر أصنعه لكم، فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قِرىً. فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أنتم وذاك» وقال لعيينة والحارث: «انصرفا، فليس لكما عندنا إلا السيف». فهذا الذي فكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إجراء لمواجهة الضرورة.. وليس حكمًا نهائيًا.وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية- وهم على شركهم- بشروط لم يسترح إليها المسلمون، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثًا، وألا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب، وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه، ومن أتاه من أصحاب المشركين رده، وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ألهمه الله- هذه الشروط، التي تبدو في ظاهرها مجحفة، لأمر يريده الله ألهم به رسوله.. وفيها متسع- على كل حال- لمواجهة الظروف المشابهة؛ تتصرف من خلاله القيادة المسلمة.إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائمًا بوسائل مكافئة، وهو منهج متحرك مرن، ولكنه متين واضح، والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها! وإنما المطلوب هو تقوى الله، والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي، والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع، وهو دين مسيطر حاكم، يلبي- وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة- كل حاجات الواقع وضروراته والحمد لله..وعندما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقبل موادعة من وادعوه، وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه؛ وجهه إلى التوكل عليه، وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة:{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}.ثم أمنه من خداعهم، إن هم أرادوا خيانته، وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم. وقال له: إن الله حسبه وكافيه وحافظه؛ وهو الذي أيده بنصره- في بدر- وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام؛ وكانت عصية على التآلف، لا يملك تأليفها إلا الله القدير الحكيم:{وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}.حسبك الله، فهو كافيك، وهو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديدًا.سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج- وهم الأنصار- فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلًا على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيرًا ولا شبيهًا.. أو كان المقصود هم المهاجرون، وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية.. أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعًا!ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله؛ والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة؛ فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ؛ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة- أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة-: {ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين} إن هذه العقيدة عجيبة فعلًا. إنها حين تخالط القلوب، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين جاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق، فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب، ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب؛ ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب!
|